أيام زمان

لا تجد مجتمعاً من مجتمعاتنا إلا وفيه هذه الجملة يتنادر بها الناس، ينفثون الحسرات وهم يقارنون هذه الأيام بتلك، ولكل واحد منا (أيام زمان) تخصه، فهذا أيامه في الأربعينات وذاك في الخمسينات، والستينات والسبعينات، وصغار السن كذلك لهم (أيام زمان) في الثمانينات وهكذا.

أين التعليم أيام زمان؟ أين المعلم لابس الطربوش الذي يتميز بالعلم والأخلاق والخبرة والثقافة الواسعة.

أين تجار أيام زمان؟ التعامل بالشرف، والكلمة كانت هي العقد.

أين جيران أيام زمان؟ كانوا كالأهل والأسرة الواحدة في تكاتفهم وتواصلهم.

أين أولاد أيام زمان؟ يحترمون الكبير ويوقرونه مهما كان قاسياً معهم.

أين طعام أيام زمان؟ الطعم والرائحة واللذة وليس كطعام اليوم.

أين، أين، أين؟

حتى الطعام لم يسلم من مقولة (أيام زمان) ، ولو دققنا لوجدنا أن لكل شيء أيام زمان خاصة به، يقارن بها ويتحسر عليها.

بل لم يسلم الابتذال والانحطاط من هذه المقولة، فسقط القوم لهم أيضاً أيام زمان كل في حرفته وفنه.

ولكن، هل من الممكن أن ينتج زماننا هذا معلماً من (أيام زمان) تاجراً، جاراً، طفلاً، طعاماً؟

طبعاً الكل يدرك أن هذا مستحيل وإلا لما تنادرنا بتلك الأيام.

مشكلتنا أننا نقارن الحالة بالحالة، معلم الماضي بمعلم اليوم، جار الماضي بجار اليوم، تاجر الماضي بتاجر اليوم، وهكذا.

وهذا هو الخطأ، لأن أصل المشكلة وسبب الاختلاف ليس بسبب حالات فردية، وهذا ما يحتاج إلى بيان:

لو فكرنا قليلاً بالسؤال التالي: معلم أيام زمان، من الذي صنعه بهذا الشكل من العلم والأدب والثقافة الواسعة والأخلاق الرفيعة؟ والجواب الطبيعي هو الحياة التي عاشها والمجتمع الذي اكتنف هذه الحياة. ولذلك فإننا لو أتينا بذاك المعلم وزرعناه في هذا المجتمع الذي نحن فيه فلن يخرج كما كان بل سيكون مثل معلمي اليوم.

فالمسألة هي في حياة مجتمعية معينة أفرزت بتركيباتها وبثقافتها العامة وبقوانينها المطبقة فيها، وبأعرافها المتفق عليها، أفرزت هذه الشخصيات التي نتنادر بها اليوم، وما كان لتلك الشخصيات أن تكون كما هي لو نشأت في مجتمع اليوم، فالعبرة ليست في عبقرية تلك الحالات الماضية وتخلّف الحالات الحاضرة، لأن الأمر ليس كذلك البتة، بل إن من الحالات الحاضرة الممسوخة من لو وجدت في تلك الأيام لفاقت أصحابها.

عندما نتكلم عن أولاد الماضي وكيف أن الواحد منهم كان يتكفل بعائلته، وأولاد اليوم مهما كبروا لا يستطيع الواحد منهم أن يتكفل بأي شيء، وعندما نتكلم عن بنات الماضي كيف كانت البنت ربة بيت وهي طفلة، واليوم تكون فتاة أو امرأة ولا تعرف كيف تسلق بيضة، عندما نتكلم بهذه الطريقة ونخاطب بها أولادنا وبناتنا، فإننا نكون بعيدين جداً عن الواقع، سابحين في أمواج الخيال، وأبناؤنا وبناتنا يقفون على الشاطئ ينظرون إلينا وهم يضحكون: ماذا يقول أبي؟ وماذا تقول أمي؟ ولماذا يكررون دائماً: عندما كنا عندما كنا؟

هذا هو الواقع، لأن الموضوع ليس بطولة في الأب أنه تكفل عائلته في أيام زمان ليعيّر ولده المسكين اليوم، وليس طفرة في الأم التي كانت ربة بيت وهي طفلة لتعير ابنتها الشابة لأنها لا تعرف الملح من الفلفل الأسود.

وترى الولد المسكين بذكائه يقول: يا أبي، لو عشت زمانك لكنت مثلك. أدركها الولد الطائش وفاتت الوالد الرزين. وترى الفتاة تقول لأمها: يا أمي هذا زمان وذاك زمان ولو أنني تربيت مثلك لصرت مثلك ويمكن أحسن منك.

لا بد من النظر إلى الأمر من جميع جوانبه، إن الذي يصنع الإنسان ليس الإنسان نفسه، بل الحياة بأفكارها وأنظمتها ومشاعرها وقوانينها وثقافتها، هذا المعلم الأديب الموسوعي ليس عبقرياً ولا خارقاً وإنما وجد في زمان فدخل في معجنته فعجن بداخلها، اختلط بالدين والثقافة والأعراف والقوانين التي كانت توجه ذاك المجتمع، وكل ما هو من مكوناته الأخرى، فخرجت عجينته مخبوزة بهذا كله، ولذلك صار كما كنا نراه.

إذا أردنا أن نغير واقعاً علينا أن نعرف ما هو حتى نحسن تغييره، وإلا فلن نغير فيه إلا جزءاً أو شكلاً. وإذا أردنا أن نبحث صناعة الإنسان فلنعرف ما هو الإنسان وما تأثير المجتمع عليه، وإلا سنظل ندور في الإنسان، ونقارن بين إنسان وإنسان ناسين اختلاف المجتمعات.

عندما جاء الإسلام فإنه لم يغير الإنسان بمعنى هذه المفردة، ولكنه قلب الموازين كلها، نقل الإنسان من حياة إلى حياة، بكل مناحيها وأشكالها، وأدخل هذا الإنسان في معجنته، فأخرج منه إنساناً آخر، كان بالأمس يعبد حجراً ويئد بنتاً، ويأكل فطيسة، وصار اليوم ربانياً يمشي على الأرض، داعية لدين الله تعالى، طاهر النفس والثوب، إنساناً جديداً في كل شيء، وكأنما خرج من بطن أمه للتو.

هذا هو الذي يصنع الإنسان، وهذا هو الذي يميزه من زمان إلى زمان.

وهنا نستطيع أن نتذكر (أيام زمان) ولكن بشكل آخر وبعين بصيرة واعية، نتذاكرها ونحن نعرف أين الخلل بالضبط فيكون لتذاكرها طعم خاص، ونكهة مختلفة. وساعتها لن نظلم أبناءنا وبناتنا، ولكن سنعلمهم كيف تتغير الحياة.

والله تعالى أعلى وأعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل

مواضيع ذات صلة

لا يوجد

جميع مواضيع المدونة

لا يوجد تعليقات على هذه المقالة حتى الآن