الحرية

أستغرب من الذين يربطون الحرية بالإسلام، وأتساءل: هل أحسنوا فهم الإسلام؟ أم هل أخطأوا فهم الحرية؟

الإسلام هو الانقياد، التسليم، الخضوع، التوقف عند حكم الله، أليس هذا هو الإسلام؟

قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} هذه الآية لوحدها من كل نصوص الكتاب والسنة تكفي لإظهار معنى الإسلام (إذا صدقت النفوس) ، الانقياد الكامل في الباطن والظاهر، تحكيم شرع الله تعالى في كل شيء (ما شجر) وهذا ينافي أن يكون الإنسان حراً يفعل ما يشاء.

الحرية لها معنى واضح وهو ضد العبودية، ولذلك فإن استعباد البشر للبشر هو سلب لحرياتهم، ومن ناحية ثانية فالبشر كلهم عبيد لله تعالى، أما الحرية بمعنى التحرر من التقييد، فلا وجود لها في الإسلام ولا قيمة لها في الواقع لأنها خيال مكذوب ينادي به ويرسمه أولئك الذين يريدون التحرر من تقييد الدين.

الذين ثاروا على السلطة في أوروبا دعاهم إلى ذلك استعباد الكنيسة لهم، فتحرروا من الكنيسة (الدين) وتلك حقيقة الحرية التي يجهلها الكثيرون، التحرر من الدين ليكون للإنسان الاختيار الكامل في اختيار نمط حياته وطريقة عيشه بالشكل الذي يراه، ومع هذا فإنهم لم يتحرروا البتة، بل أدخلوا أنفسهم في تقييد القوانين التي تحكم الأقليةُ بها الأغلبية (على عكس ما يتصورون) فصاروا (الأغلبية) عبيداً للأقلية.

وأبناء المسلمين الذين ينادون بالحرية، يدركون جيداً أن الإسلام لا يترك أتباعه يفعلون ما يشاؤون بل يقيدهم بأحكامه، وهذا ما يجعل سوء الظن فيهم من حسن الفطن، إذ لا يتصور العقلُ أن يدعو أحداً إلى التحرر من الاستبداد ليدخل في استعباد، وهم تارة يتحدثون عن عدم الإكراه في الدين، وتارة عن استعباد الناس مستدلين بما نسب لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً) وهو قول لا علاقة له بالحرية التي ينادون بها (التحرر من التقييد) فضلاً عن أن سنده منقطع لا يستدل به ولا تصح نسبته لعمر رغم صحة معناه لأنه لا يخرج في كل معانيه عن استعباد الإنسان للإنسان ولا علاقة له بالحرية موضوع الكلمة إطلاقاً.

يدّعون أنهم يريدون أن ينقلوا المسلمين من واقع إلى واقع، من استبداد إلى اختيار، من استعباد إلى تحرر، ولذلك تجدهم يطرحون ما يتعلق بحرية اختيار الحاكم، وحرية تشريع القوانين، وحرية الرأي، وكل هذه رغم جمالها البراق الظاهر إلا أنها ليس لها وجود.

فاختيار الحاكم له شروط وضعها الشرع وليس اختياراً حراً لا تقييد فيه، وتشريع القوانين من الله تعالى، ودور الإنسان فيه يقتصر على فهم النص واستنباط الأحكام الشرعية وفق الدليل الشرعي وليس وفق هواه ومشتهاه، ولذلك فما حرمه الشرع لا يستطيع البشر ولو اجتمعوا كلهم أن يجعلوه حلالاً، ولا يجوز للمسلم كائناً من كان أن يخرج من هذا التقييد {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ} [المائدة: 49-50] وهذا تقييد في تقييد.

وأما حرية الرأي فلا قيمة لها ولا وجود، لأن الإنسان في الإسلام ليس حراً ليقول ما يريد، فكل كلمة بل كل حرف يخرج من فمه يحاسب عليه {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} [ق: 18] {وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ} [الانفطار: 10-12] وهذا تقييد في تقييد في تقييد.

وإذا كان القصد من الحرية كما يدعون هو قول كلمة الحق، فإن قولها في الإسلام ليس حرية وليس اختياراً بل هو واجب يأثم المسلم إن لم يفعله وهذا أعظم وأرقى من حريتهم المزعومة، قال عليه الصلاة والسلام: «والذي نفسي بيدِه لتَأمرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهوُنَّ عن المنكرِ أو ليُوشِكَنَّ اللهُ أن يَبعثَ عليكمْ عقابًا منهُ فتدعونهُ فلا يَستجيبُ لكمْ» [الترمذي] كما جعل عليه الصلاة والسلام قول الحق أفضل الجهاد: «أفضلُ الجهادِ كلمةُ عدلٍ عند سُلطانٍ جائرٍ، أو أميرٍ جائرٍ» [أبو داود] .

عن أي حرية تتحدثون؟ عن حرية التقيد وفق أحكام الشرع، وأخذ التشريع من الله تعالى، وعدم التصويت على أحكام الله تعالى، وتطبيق سائر ما شرعه الله على البشر، وإلزام الجميع بقوانين الشرع في الشارع والحياة العامة، ودعوة غير المسلمين إلى الإسلام؟

إذا كان هذا ما تدعون إليه، فاخجلوا من أنفسكم ولا تطلقوا عليه حرية، لأنه ليس فيه من الحرية شيء، وإن كانت الحرية غير هذا فاكشفوا رؤوسكم وقولوا للناس نحن ندعوكم إلى التحرر من الأديان، ولا تلعبوا بمشاعر الناس الدينية، لتصوروا لهم أن الإسلام أبو الحريات وهو منها بريء.

وأخيراً، يقول البعض إن الإسلام وسع دائرة الاختيار وهذا من الحرية، وأجيب أن الاختيار ليس حرية ما دام مقيداً، فمن تتركه يأكل ما يشاء ليس كمن تضع أمامه أصنافاً معينة وتقول له: كل من هذه فقط. ومن ناحية ثانية فإنه وفق هذا المنطق لا وجود للحرية على الإطلاق لا في الإسلام ولا في غيره، لأنه لا يوجد إنسان على وجه الأرض حر في حياته، بل توجد حوله اختيارات وقوانين تقيده في كل شيء، وهو بالمناسبة لم يخترها بل اختيرت له، ما لم يكن الحديث عن الغابة والأدغال ومجاهل البهائم فهذا أمر آخر.

إن الحرية طلاء زائف يخدعون بلمعانه عيون الناس، فلا تغتروا به، لأنه سرعان ما سيزول إذا نظرتم إليه من زاوية قال الله وقال رسوله، هذه الزاوية التي تفرض المسلم جسداً صامتاً لا حياة فيه متوقفاً عن كل شيء حتى عن التنفس، منتظراً الروح التي تبعث فيه الحياة لتحركه بأوامرها ونواهيها فتسمح له بالحياة وفق منهجها الذي وضعه له ربه وخالقه جلّ وعلا.

والله تعالى أعلى وأعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل

مواضيع ذات صلة

لا يوجد

جميع مواضيع المدونة

لا يوجد تعليقات على هذه المقالة حتى الآن