الصمت

بعض الناس يقللون من قيمة الصمت في أنفسهم وفي غيرهم ولا يقدّرونه، لأنهم لا يعرفون قيمته، بل إن منهم من يعتبره عجزاً.

فالقسم الأول: يشعر بالحرج والعجز إذا صمت ولم يتكلم، وهذا الشعور يخرجه من دائرة الكلام لقصد إلى دائرة الكلام لمجرد الكلام، فتجده يشارك ويتكلم ولا قيمة لكلامه إلا أنه كلام، ومثل هذا يحتاج إلى أن يثق بنفسه وأن يدرك أن صمته لا يقلل من قدره تجاه الآخرين.

والقسم الثاني: من يعتبر الصمت عجزاً والصامت عاجزاً، فهو يظن أن الصمت عند الآخرين دليل ضعف، ولذلك يُبهر بمن يكثر الكلام، ولا يأبه للصامتين، ومثل هذا أيضاً جعل الكلام هو المعيار، ووقع فيما وقع فيه القسم الأول، فأصيب بعقدة الكلام من أجل الكلام.

ثقافة الصمت أن نعرف متى نصمت، ومتى نتكلم، مع أن الصمت هو الأصل والكلام هو الطارئ، ولكن تنقلب الأصول في بعض الأحيان، وهذا ما يحصل عندما يصبح الصمت عيباً.

تراهم يهدرون أوقاتهم بالكلام السخيف، والجدال عديم الفائدة، والمزاح المميت للقلب، ثم يطرح عليهم أحدهم أن يلعبوا لعبة وهي معارضة شعرية أو ذكر كلمات مترابطة، وبعد أن ينتهوا من لعبتهم يذهب الواحد إلى بيته ليقول لأهله: لقد لعبت اليوم لعبة جميلة. المسكين، حياته كلها لعب، والجد الوحيد الذي قام به أطلق عليه (لعبة) .

ثقافة الصمت أن نشعر بالفخر في لحظات الصمت، لا أن نستصغر أنفسنا، متى ما تشرّبنا هذه الثقافة سيكون صمتنا خيراً كما جاء في الحديث الشريف: « … ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت» [البخاري] فالصمت فيه خير مثل الكلام تماماً.

وكما أن الكلام له حساب {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ} فمن يثاب على الكلام يثاب على الصمت، ومن يؤثم على الكلام يؤثم على الصمت، هنا تظهر لنا أهمية الصمت وخطورته، مثله مثل الكلام تماماً.

عن أبي إِسْحَاقَ الْفَزَارِيُّ، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ يُطِيلُ السُّكُوتَ، فَإِذَا تَكَلَّمَ رُبَّمَا انْبَسَطَ فَأَطَالَ ذَاتَ يَوْمٍ السُّكُوتَ، فَقُلْتُ: لَوْ تَكَلَّمْتَ فَقَالَ: الْكَلَامُ عَلَى أَرْبَعَةِ وُجُوهٍ:

فَمِنَ الْكَلَامِ كَلَامٌ تَرْجُو مَنْفَعَتَهُ وَتَخْشَى عَاقِبَتَهُ، وَالْفَضْلُ فِي هَذَا السَّلَامَةُ مِنْهُ،

وَمِنَ الْكَلَامِ كَلَامٌ لَا تَرْجُو مَنْفَعَتَهَ وَلَا تَخْشَى عَاقِبَتَهُ فَأَقَلُّ مَا لَكَ فِي تَرْكِهِ خِفَّةُ الْمُؤْنَةِ عَلَى بَدَنِكَ وَلِسَانِكَ

وَمِنَ الْكَلَامِ كَلَامٌ لَا تَرْجُو مَنْفَعَتَهُ، وَلَا تَأْمَنْ عَاقِبَتَهُ، فَهَذَا قَدْ كَفَى الْعَاقِلَ مُؤْنَتُهُ،

وَمِنَ الْكَلَامِ كَلَامٌ تَرْجُو مَنْفَعَتَهُ وَتَأْمَنُ عَاقِبَتَهُ فَهَذَا الَّذِي يَجِبُ عَلَيْكَ نَشْرُهُ

قَالَ خَلَفٌ: فَقُلْتُ لِأَبِي إِسْحَاقَ: أُرَاهُ قَدْ أَسْقَطَ ثَلَاثَةَ أَرْبَاعِ الْكَلَامِ. قَالَ: «نَعَمْ» [الصمت لابن أبي الدنيا] .

ولا يكون الصمت محموداً إذا كانت الحاجة ماسة إلى الكلام، كنصح أو قول حق أو أمر بمعروف ونهي عن منكر، كما لا يكون الكلام محموداً إذا كانت الحاجة ماسة للسكوت، ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: «إذا غضب أحدكم فليسكت» [رواه أحمد] فالسكوت في هذه الحالة قمة الحكمة والعقل، لأنه يلجم الغضب ويطفئه.

لنتعلم كيف نصمت، وليكن الصمت ثقافة عندنا نتعلمها ونعلمها غيرنا، وليطغى صمتنا على كلامنا، فهذه سمة الصالحين.

الصمت فكر، والكلام ذكر، ولن نندم إن شاء الله تعالى.

والله تعالى أعلى وأعلم وهو الهادي إلى سواء السبيل

مواضيع ذات صلة

لا يوجد

جميع مواضيع المدونة

لا يوجد تعليقات على هذه المقالة حتى الآن